مقدمة:
إن مفهوم الغير اتخذ في التمثل الشائع معنى تنحصر دلالته في الآخر المتميز عن الأنا الفردية أو الجماعية (النحن). ولعل أسباب هذا التميز إما مادية جسمية، وإما إثنية (عرقية) أو حضارية، أو فروقا اجتماعية أو طبقية . ومن هذا المنطلق، ندرك أن مفهوم الغير في الاصطلاح الشائع يتحدد بالسلب، لأنه يشير إلى ذلك الغير الذي يختلف عن الأنا ويتميز عنها، ومن ثمة يمكن أن تتخذ منه الذات مواقف، بعضها إيجابي كالتآخي، والصداقة وما إلى ذلك، وأخرى سلبية كاللامبالاة، والعداء... وهكذا، يتضح أن معنى الغير والآخر واحد في التمثل الشائع.
لكن كيف نستدل على وجود الغير باعتباره وجودا خارج الذات،بالرغم من أنه وجود مختلف عن باقي الموضوعات الأخرى التي تشكل العالم الخارجي؟
المحور الأول: وجود الغير.
لقد كان ديكارت أول فيلسوف حاول إقامة مفارقة بين الأنا الفردية الواعية وبين الغير ؛ حيث أراد ديكارت لنفسه أن يعيش عزلة إبستيمية، رافضا كل استعانة بالغير في أثناء عملية الشك. فرفض الموروث من المعارف، واعتمد على إمكاناته الذاتية، لأنه يريد أن يصل إلى ذلك اليقين العقلي الذي يتصف بالبداهة والوضوح والتميز... فوجود الغير في إدراك الحقيقة ليس وجودا ضروريا، ومن ثمة يمكن أن نقول : إن تجربة الشك التي عاشها ديكارت تمت من خلال إقصاء الغير... والاعتراف بالغير لا يأتي إلا من خلال قوة الحكم العقلي حيث يكون وجود الغير وجودا استدلاليا.
وقد تجاوز هيجل هذا الشعور السلبي بوجود الغير، لأنه رأى أن الذات حينما تنغمس في الحياة لا يكون وعيها وعيا للذات، وإنما نظرة إلى الذات باعتبارها عضوية. فوعي الذات لنفسها ـ في اعتقاد هيجل ـ يكون من خلال اعتراف الغير بها. وهذه عملية مزدوجة يقوم بها الغير كما تقوم بها الذات. واعتراف أحد الطرفين بالآخر لابد أن ينتزع. هكذا تدخل الأنا في صراع حتى الموت مع الغير، وتستمر العلاقة بينهما في إطار جدلية العبد والسيد. هكذا يكون وجود الغير بالنسبة إلى الذات وجودا ضروريا.
أما سارتر فيرى الغير ما هو إلا أنا آخر،أي كأنا مماثل لأناي،إلا أنه مستقل عنه.لكن وجود الغير هو كذلك نفي لأناي،من حيث هو مركز للعالم.ويترتب على وجود الغير هذا نتائج هامة وحاسمة لا على مستوى أناي فحسب،بل على مستوى علاقتي مع العالم الخارجي.
إن ما سبق يظهر التناقض الحاصل بين التمثلين الديكارتي والهيجلي ؛ ففي الوقت الذي يقصي فيه ديكارت وجود الغير، يعتبره هيجل وجودا ضروريا. وهذا يتولد عنه السؤال التالي : هل معرفة الغير ممكنة ؟ وكيف تتم معرفته؟
المحور الثاني: معرفة الغير .
إن معرفة الغير تمثل بحق علاقة " إبستيمية " بين طرفين، أحدهما يمثل الأنا العارفة والآخر يمثل موضوع المعرفة. الشيء الذي يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي : هل نعرف الغير بوصفه ذاتا أم موضوعا ؟ بمعنى آخر،هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟
يطرح سارتر العلاقة المعرفية بين الأنا والغير في إطار فينومينولوجي (ظاهراتي) فالغير في اعتقاده هو ذلك الذي ليس هو أنا، ولست أنا هو ". وفي حالة وجود علاقة عدمية بين الأنا والغير، فإنه لا يمكنه " أن يؤثر في كينونتي بكينونته "، وفي هذه الحالة ستكون معرفة الغير غير ممكنة. لكن بمجرد الدخول في علاقة معرفية مع الغير معناه تحويله إلى موضوع (أي تشييئه) : أي أننا ننظر إليه كشيء خارج عن دواتنا ونسلب منه جميع معاني الوعي والحرية والإرادة والمسؤولية. وهذه العلاقة متبادلة بين الأنا والغير : فحين أدخل في مجال إدراك الآخر، فإن نظرته إلي تقيدني وتحد من حريتي وتلقائيتي، لأنني أنظر إلى نفسي نظرة الآخر إلي ؛ إن نظرة الغير إلي تشيئني، كما تشيئه نظرتي إليه. هكذا تبدو كينونة الغير متعالية عن مجال إدراكنا ما دامت معرفتنا للغير معرفة انطباعية حسية.
لكن ميرلوبونتي، له موقف آخر إذ يرى أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع " ؛ إلا في حالة واحدة وهي أن ينغلق كل واحد في ذاته وتأملاته الفردية. مع العلم أن هذا الحاجز يمكن تكسيره بالتواصل، فبمجرد أن تدخل الذات في التواصل مع الغير حتى تكف ذات الغير عن التعالي عن الأنا، ويزول بذلك العائق الذي يعطي للغير صورة عالم يستعصي بلوغه.
أما دولوز فيرى أن الغير ليس هو ذلك الموضوع المرئي، وليس ذلك الشخص الآخر. إن الغير بنية الحقل الإدراكي، كما أنه نظام من التفاعلات بين الأفراد كأغيار. فحين تدرك الذات شيئا ما، فإنها لا تستطيع أن تحيط به في كليته إلا من خلال الآخرين ؛ فالغير هو الذي يتمم إدراكي للأشياء، وهو الذي " يجسد [مثلا] إمكانية عالم مفزع عندما لا أكون بعد مفزوعا، وعلى العكس إمكانية عالم مطمئن عندما أكون قد أفزعت حقيقة ". إن الغير إذن بنية مطلقة تتجلى في الممكن الإدراكي وهي تعبير عن عالم ممكن، ومعرفة الغير يجب أن تكون معرفة بنيوية.
لا يمكن اختزال العلاقة مع الغير في علاقة إبستيمية /أو معرفية/ من أي نوع. إن العلاقة مع الغير يمكن أن تكون علاقة أكسيولوجية قيمية تحكمها ضوابط أخلاقية كالأنانية، والغيرية، والظلم، والتسامح ...الخ. وهذا ما يضطرنا إلى الوقوف عند نموذجين للعلاقة مع الغير هما : الصداقة والغرابة.
المحور الثالث:العلاقة مع الغير.
هل العلاقة مع الغير هي علاقة تكامل أم تنافرظ
تتنوع العلاقة مع الغير وتختلف، فهي إما أن تكون علاقة اختلاف وعداوة أو علاقة صراع...وعلى أساس هذه العلاقة الشائكة مع الغير، يمكن أن تتفرع أنواع أخرى من العلاقات، مثل علاقة الإقصاء وعلاقة القبول وعلاقة التسامح والتعاطف و..و..و...
وفي هذا السياق يرى كانط أن علاقة الصداقة هي أسمى وأنبل العلاقات الإنسانية،لأنها قائمة على الاحترام المتبادل.وأساسها الإرادة الأخلاقية الخيرة.فالصداقة باعتبارها واجبا أخلاقيا، تشترط وجود المساواة وعلاقة التكافؤ، وهي أيضا نقطة تماس بين الحب والاحترام.وهذا ما يمنح الإنسان توازنه وعدم الإفراط سواء في الاحترام أو الحب.
أما أفلاطـون فيعتبر أن علاقة الصداقة تنبثق من الحالة الوجودية الوسط التي تطبع وجود الإنسان، وهي حالة وسط بين الكمال المطلق والنقص المطلق تدفع الإنسان إلى البحث الدائم عما يكمله في علاقته مع الآخرين... فالكمال الأقصى يجعل الإنسان في حالة اكتفاء ذاتي لا يحتاج فيها إلى الغير، وفي حالة النقص المطلق تنعدم لديه الرغبة في طلب الكمال والخير. من هنا تقوم الصداقة كعلاقة محبة متبادلة يبحث فيها الأنا عما يكمله في الغير، يتصف فيها كل طرف بقدر كاف من الخير أو الكمال يدفعه إلى طلب كمال أسمى، وبقدر من النقص الذي لا يحول دون طلب الكمال .
لكن أرسطـو يرى أن الصداقة كتجربة معيشية وواقعية لا تقوم على الحب بمعناه الأفلاطوني فقط, بل توجد ثلاثة أنواع من الصداقة تختلف من حيث طبيعتها وقيمتها. فالنمطان الأولان (المنفعة/المتعة) متغيران نسبيان يوجدان بوجود المنفعة والمتعة ويزولان بزوالهما , ومن ثم فهما لا يستحقان اسم الصداقة إلا مجازا. والنمط الثالث(الفضيلة) يمثل الصداقة الحقة لأنه يقوم على قيمة الخير والجمال لذاته أولا ثم للأصدقاء ثانيا. وفي إطار صداقة الفضيلة تتحقق المنفعة والمتعة ليس كغايتين بل كنتيجتين. غير أن هذا النمط من الصداقة نادر الوجود. ولو أمكن قيامه بين الناس جميعا لما احتاجوا إلى العدالة والقوانين .
غير أن هيجل يؤسس للعلاقة بين الذات والغير،انطلاقا من الجدل القائم على ثنائية العبد والسيد.فكل وعي في نظره يدخل حتما في علاقة معينة مع وعي آخر،يبحث من خلالها عن الاعتراف بسيادة وعيه.إلا أن هذا الاعتراف عندما يتم،بعد انتهاء الصراع بين النوعين يفقد معناه لأنه صادر عن وعي العبد.الأمر الذي يستدعي وعي السيد إلى البحث عن صراع جديد واعتراف جديد.
خلا صـة تركيبيـة:
إن التفكير في مفهوم الغير يكشف عن إشكالية فلسفية متعددة الأبعاد نظرا لطبيعة العلاقة المركبة بين الأنا والغير .
فعلى المستوى الوجودي يتحدد وجود الغير كضرورة لوجود الأنا حسـب التصـور الجدلـي (هيجل) في مقابل التصور الذاتي الذي يتم فيه استغناء الأنا عن وجود الغير (ديكارت).
وعلى المستوى المعرفي تفتح علاقة الأنا بالغير على عدة زوايا من النظـر انعكسـت فـي الخطابات التي تتحدد فيها هذه العلاقة كعلاقة تشييئية (سارتر) أو كعلاقة مشاركة وجدانية (ميرلو بونتي) تجعلان معرفة الغير تطرح معضلات لا حل لها... وذلك في مقابل تصورات أخرى تسعى إلى تجاوز هذه الصعوبات من خلال إضفاء طابع كلي (شيلر) أو بنيوي (دولوز) على الغير .
وعلى مستوى العلاقة الأخلاقية الوجدانية، يلاحظ أن التواصل مع الغير قد يتخذ أشكالا مختلفة كما يتجلى ذلك في سيادة نظرة الهيمنة والإقصاء قديما في مقابل النظرة الفلسفية المعاصرة التي تحاول تأسيس هذه العلاقة على الحوار والاختلاف أو التكامل والمغايرة .